دبي، الامارات العربية المتحدة،
متابعة سلام محممد
ناقش المجلس الثقافي للدكتور حنيف حسن القاسم، في جلسته الأسبوعية بعنوان “تأملات في فكر الشيخ راشد بن سعيد وتجربته” بمشاركة سعادة إبراهيم بوملحة مستشار صاحب السمو حاكم دبي للشؤون الإنسانية
والثقافية، ومعالي الفريق ضاحي خلفان تميم، نائب رئيس الشرطة والأمن العام في دبي، شخصية المغفور له بإذن الله الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم الذي انتقل إلى جوار ربه قبل 28 عاماً، بما فيها من صفات قيادية واستثنائية، وضعته في مصاف القادة التاريخيين الذين خلّد التاريخ
انجازاتهم، جنباً الى جنب الملك عبد العزيز بن سعود آل سعود والرئيس جمال عبد الناصر والأمير عبد الله السالم والملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، الذين تركوا بصمات واضحة في حياة شعوبهم وأمتهم.
واستهل معالي الدكتور حنيف حسن القاسم رئيس مركز جنيف لحقوق الإنسان والحوار العالمي، الجلسة الأسبوعية بتمهيد تطرق فيه إلى أهمية استعراض عبقرية الشيخ راشد القيادية ونظرته الاستراتيجية التي
سبقت عصرها بمراحل، ووضعت اللبنات الأساسية لمؤسسات إمارة دبي العريقة التي لا تزال تؤدي دورها بفاعلية.
رمز وطني وقومي
وأكد المستشار إبراهيم محمد بوملحة مستشار صاحب السمو حاكم دبي للشؤون الثقافية والإنسانية، في كلمته الرئيسية أن الشيخ راشد الذي يصادف اليوم الذكرى 28 على وفاته، لا يزال حيّاً في ذاكرة شعبه
وأمته والعالم أجمع، مستعيدً بذاكرته يوم وفاته حين أعلنت الأمم المتحدة الحداد عليه ووقف المجتمعون دقيقة صمت تعبيراً عن تقديرهم لهذه الشخصية الكبيرة.
واستعرض بوملحة نشأة الشيخ راشد في كنف والده الشيخ سعيد بن مكتوم الذي أسند إليه كثيراً من أمور الإدارة والحكم، ثم جعله مستقلاً في إدارة الحكم واتخاذ قراراته باسم والده في سن الثلاثين، وكيف
أخذ عن والده صفات التواضع والسماحة والطيبة واحترام الاخرين والجود وسماع رأي الرعية، وكيف أثرت فيه صفات والدته الشيخة حصة بنت المر بن حريز التي اتسمت بالقوة والحسم والصلابة، وهو ما صاغ شخصيته وأعده بامتياز للحكم.
وأوضح أن الشيخ راشد درس في كتاتيب الشندغة وحفظ سوراً من القرآن الكريم ثم التحق بالمدرسة الاحمدية ليدرس الحديث واللغة العربية والشعر والحساب والمنطق وغيرها من العلوم، وكان يقرأ للمتنبي ويحفظ
شعره.
وكانت زوجته لطيفة بنت حمدان بن زايد آل نهيان ثالث شخصية مؤثرة في مسيرته، حيث اهتمت بتربية أبنائه ووفرت له سبل التفرغ لأعماله وكانت تستقبل النساء وتقضي حوائجهن عن طريقه، فكان يحبها حباً
كبيراً.
رجل الازمات
ولفت بوملحة إلى أن الشيخ راشد رحمه الله عاصر أزمات كبرى مرت بها دبي ومنطقة الخليج العربي، منها أزمة كساد اللؤلؤ التي أثرت على الحياة الاجتماعية والتجارية. وكذلك أزمة الحرب العالمية الثانية
حيث كانت الحكومة تصرف الطعام والملابس للمواطنين بالبطاقة، وقام الشيخ سعيد وابنه راشد بجهود جبارة للتخفيف من معانة الناس الذين اضطروا للسفر والعمل في دول الخليج الأخرى فكان يزود رعاياه برسائل الى الحكام للاهتمام بهم.
رجل الإنجازات
أدرك الشيخ راشد مبكراً أن تنمية التجارة في دبي هي الحل الأمثل في ظل غياب الموارد الطبيعية، فكان يشجع التجار ويشاورهم في كل خطوة كفرض تعرفة جمركية بنسبة 2% على الصادرات والواردات. كما جعل
دبي مدينة تجارية رفيعة المستوى ووجهة الدول المجاورة ودول العالم، فنشطت الأسواق ووظف العائدات في تنمية البنية التحتية للإمارة، فأضحت عروس الخليج. وكان لاكتشاف النفط منتصف الستينيات من القرن العشرين أثراً في تقوية التجارة وتحوله الى داعم لها وليس بديلاً عنها.
رجل العمل
كان الشيخ راشد حريصاً على فتح مجالسه في الصباح والعصر والمساء، أمام كافة الناس، وكان مستمعاً جيداً لآرائهم وافكارهم، ولم يمنع أحداً من حق الحديث أو النقاش. وكان يشركهم في أمور كثيرة، وإذا
حدث أن استفزه أحدهم وحاول الحضور منعه كان يسكت الجميع ويطلب من ذلك الشخص اكمال حديثه. وهو ما أخذه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد عن والده منذ كان شاباً.
ومن مآثره أنه كان إذا عقد العزم على أمر بادر بتنفيذه ومتابعته، فكان يصحو قبل الفجر ليتجول في أنحاء دبي ومشاريعها يومياً ليرصد نسب الإنجاز فيها، ثم يعود ليصلي الفجر ويتجه الى مكتبه مع الصباح.
وهذا ما فعله عندما تولى رئاسة الحكومة الاتحادية في العام 1979، إذ كان يزور الامارات الأخرى ليتابع مشاريع البنى التحتية دورياً.
وأشار بوملحة إلى أن الشيخ راشد كان حريصاً على رفاهية المواطنين، فبدأ مبكراً بتشييد الاحواش ثم البيوت الشعبية ثم وزع الأراضي والمال لبنائها، ثم شيّد بيوتاً بكلفة مليون درهم للبيت في أيامه
الاخيرة ووزعها على المواطنين. وأنشأ مجلس الاعمار لبناء أراضي المواطنين غير المقتدرين ليمنحهم جزءً من ريعها لهم وجزءً لتسديد قرض البناء، لتعود ملكيتها بعد تسديد القرض إليهم. وأنشأ عدداً من المدن السكنية مثل الراشدية وهور العنز والمنامة والحمرية في أبوهيل إلى
جانب الشعبيات التي حملت اسمه. وشيد المستشفيات كدبي والوصل وراشد.
وفي عصره تم بناء ميناء جبل علي رغم معارضة المحيطين له ليكون بوابة دبي التجارية للأجيال القادمة. وأسس الدوائر الحكومية في دبي مثل البلدية والمجلس البلدي ودائرة الأراضي والاملاك التي كانت
تعرف بدائرة الطابو، وأعاد تنظيم إدارة الجمارك وأنشأ شرطة دبي وإدارة الكهرباء ومياه دبي ومحاكم دبي وغرفة تجارة دبي. وأنشأ في منتصف الاربعينيات أول فرع للبنك الامبراطوري في دبي الذي اصبح لاحقاً اسمه البنك البريطاني للشرق الأوسط.
ضاحي خلفان .. راشد قيادة استراتيجية
من جانبه، أكد معالي الفريق ضاحي خلفان تميم، نائب رئيس الشرطة والأمن العام في دبي، على أن مسيرة الشيخ راشد رحمه الله كانت استثنائية في كل مراحلها، قائلاً: يسعدني ان أكون جزءاً من الحديث
عن هذا القائد الفذ، فالشيخ راشد بن سعيد رحمه الله هو الذي صمم ووضع هيكل الإدارة الحكومية لإمارة دبي بشكله المعاصر الذي نعرفه الان. والشيخ راشد بن سعيد هو من أطلق على ميدان رئيسي ومدرسة على اسم جمال عبد الناصر، بالرغم مما كان يقال حينها عن أن حكام الخليج رجعيين،
وسمى مدينة الكرامة على اسم معركة الكرامة التي انتصر فيها الجندي العربي، وسمى منطقة بور سعيد كذلك“.
ولفت الى أن الشيخ راشد كان له في حرية الكلمة صولات وجولات، فعندما كتبت صحيفة كويتية كلاماً سلبياً مسّه شخصياً، وحاول المسؤولون منع توزيعها في دبي، أمر سموه بعدم منعها، قائلاً: إذا كان كلامهم
صحيحاً فقد أصابوا، وإن كان ظلماً فالناس يعرفون من أنا.
وأشار خلفان إلى أن مجلس الشيخ راشد لم يكن للمجاملات، بل كان منبراً للتعبير عن الآراء مثل الهايدبارك في بريطانيا كما اطلق عليه في حينها.
وأوضح معالي الفريق نائب رئيس الشرطة والأمن العام في دبي، ان من أبرز صفات الشيخ راشد القيادية كان التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى: من هذه النماذج: منطقة مطار آل مكتوم التي خصصها قبل 47 عاما
لتكون مطاراً دولياً لدبي، إذ كان يدرك مبكراً أن المطار الحالي لن يكون كافياً لتلبية توسعات إمارة دبي المستقبلية.
وأما المشروع الثاني فكان قصة بناء ميناء جبل علي، إذ كان يداوم الشيخ راشد صباحاً في الديوان، ثم يذهب ليجلس مقابل جبل علي في خيمة هناك، فسرت إشاعة انه تعب ومرض ويحتاج الى الراحة بعيداً عن
صخب المدينة، والحقيقة انه كان يخطط لبناء أكبر ميناء على وجه الأرض بل وتكفي رماله المستخرجة لتلف قطر الكرة الأرضية. وقد حاول البعض ان يثنيه عن انشاء الميناء، حتى ان الشيخ محمد ذهب ليقنعه بالعدول عن ذلك فقال له الشيخ راشد إذا لم ابنيه فلن تبنونه، وهذه فلسفة
آل مكتوم، التي توارثوها أباً عن جد وهي أن يبنوا للمستقبل لا للحاضر.
واستذكر خلفان يوماً كتب في مجلة الشرطة قبل وفاة الشيخ راشد بعامين، مقالة بعنوان المفاجأة الكبرى قال فيها كيف أن الشيخ راشد وصل رحلته الخارجية بالداخلية ووصل قبل الجميع الى خيمة بسيطة مع
مجموعة من الرفاق، إلى منطقة جبل علي التي كانت سبخة لا حياة فيها، فكانت فكرة انشاء ميناء في سبخة في تقع في قلب اليابسة، وكيف أن ماجد الفطيم قرأ المقال، وأضاف لي معلومة، وهي انه أيضاً كان اكبر معارض لبناء ميناء جبل علي، إلى أن جاء وفد ياباني لزيارة دبي، واصطحب
هو رئيس الوفد الى الميناء وأخبره وجهة نظره بعدم بنائه، فلما رآه قال رئيس الوفد له إن هذا المشروع سيكون هو الانجح على مستوى المنطقة، بل وسيشكل أهم مصادر الدخل لدبي ما بعد عصر النفط.
ولفت خلفان إلى أن الامر نفسه حدث عندما قرر الشيخ راشد بناء المركز التجاري العالمي في شارع الشيخ زايد، إذ قام بعرض الأراضي على تجار المدينة ليستثمروها ويبنوا فيها، فتردد الجميع الا قلة ممن
اخذوا هذه الأراضي على مضض، واليوم أصبحت تلك المنطقة هي مركزاً حيوياً للمدينة.
وقال ضاحي خلفان أن الشيخ راشد قام منذ اول شحنة بترول في العام 1975 ببناء اول مسكن لذوي الدخل المحدود، واطلق قانون المجلس الأعلى للإعمار، لأنه أراد للمواطن محدود الدخل ان يشعر بأثر النفط
على بيته، ووضعه الاقتصادي، حتى أنه وفر للأجنبي المقيم المسكن بسعر متوسط ومعقول.
راشد القومي
وأشار معالي الفريق ضاحي خلفان تميم، نائب رئيس الشرطة والأمن العام في دبي، إلى أن الشيخ راشد بن سعيد كان رجلاً قومياً بامتياز، وحتى خلال مرضه كان يسأل عن ياسر عرفات الذي كان محاصراً في بيروت
إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان في الثمانينيات، وكان لا يتوانى عن دعم إخوته في الدول العربية، وإن لم يكن يجاهر بذلك في وسائل الاعلام.
وقال خلفان: لقد كان لآل مكتوم دوماً نصيباً من لقبهم، فهم يكتمون ما يجول في أذهانهم من أفكار ومشاريع عظيمة، ولا يتباهون بالتصريحات والخطب، ويتركون أعمالهم وانجازاتهم تتحدث عن نفسها بنفسها.
وهو ذات النهج الذي سار عليه صاحب السمو سيدي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم إلى يومنا هذا.
وسرد خلفان قصة التاجر الشامي الذي حلّ على دبي في عهد الشيخ راشد، وكيف استطاع أن يسحب البساط من تحت اقدام أقرانه من التجار، ويتوسع بسرعة، مما أزعجهم لدرجة أنهم قرروا شكوى أمره إلى الشيخ
راشد رحمه الله، فما كان منه إلا أن سألهم: هل جاء هذا التاجر بماله من الشام الى هنا! وهل يبيع ويشتري بالحلال؟ فأجابوه بالإيجاب، فرد الشيخ راشد: الرزاق هو الله، والمنافسة للجميع.